المطلع على التاريخ السياسي في باكستان يدرك جيداً أن زئبق السياسة الباكستاني لا يقف عند درجة حرارة معينة، بل هو في حالة ارتفاع وانخفاض دائم، وأكثر الأسباب التي يمكن أن نوعز إليها هذا الثبات في الحركة هو تعدد الأحزاب السياسية غير المتوافقة على أيديولوجية سياسية واحدة، فكل حزب سياسي له مصالح يطوعها في مواقفه والتي تؤدي إلى اختلافات لا نهاية لها من أجل الصراع على السلطة، ولاعتلاء العرش السياسي الباكستاني.
ولعل من سوء الطالع أن باكستان لم تستطع منذ استقلالها بعد وفاة مؤسسها محمد علي جناح أن تؤسس دعائمها الديمقراطية بشكل ثابت، كما أن محاولات التدخل الغربية، والصراعات الإقليمية لها دور كبير في التأثير على الصراعات السياسية الداخلية.
ذكر الكاتب الباكستاني خورشيد نديم عن تاريخ التطرف السياسي في باكستان، موضحا أن الرعيل الأول ممن أنشأ باكستان مثل: محمد إقبال، أو غيرهم من العلماء والأدباء مثل سيد أحمد خان، وأبو الكلام آزاد، والشيخ محمود الحسن ممن كانوا على خلاف مع الهندوس وهم من دين واعتقاد مختلف، إلا أنهم لم يكونوا مبتذلين في الخلافات التي كانت بينهم حيال الدين، والمعتقد، والوطن، واللغة وغيرها من الأمور، ولكن سرى سرطان التطرف في السياسة الباكستانية بعد عام 1958م حينما واجه الاشتراكيون في باكستان حاملي العلوم الدينية فيها، فقد بدأ التلاسن حتى وصل إلى التكفير.
ويعزي خورشيد نديم بداية التلاسن السياسي والتنابز بالألقاب إلى رئيس الوزراء الباكستاني الأسبق ذو الفقار بوتو، ويذكر أن هذا اللون من التطرف السياسي بقي حتى عام 1977م، ثم لما صار الانقلاب العسكري في باكستان على يد الجنرال ضياء الحق لم يستخدم التلاسن كوسيلة للنيل من الساسة المخالفين له، لكنه استخدم كل الأدوات السياسية وغير السياسية ضد من عارضه، وكان ذلك حتى 1988م.
ثم بين عام 1988م حتى 1999م كان هناك تلاسن سياسي حاد وصل إلى حد التطرف بين حزبي الرابطة الإسلامية، وحزب الشعب الباكستاني والتي كانت ترأسه آنذاك بينظير بوتو، وقد انتهى هذا العهد سنة 2006م حين وقع الحزبان على الميثاق الديمقراطي، تقلص التطرف السياسي من السياسة الباكستانية بشكل عام إلى استخدام التلاسن والتطرف آن الانتخابات.
في عام 2011م ولد لاعب سياسي جديد في السياسة الباكستانية، وحطت حركة الإنصاف الباكستانية بقيادة لاعب الكريكيت عمران خان رحلها، بدأت مع ذلك موجة جديدة من التطرف السياسي كانت قد خمدت إلى حد ما بين حزب الرابطة الإسلامية الذي يقوده نواز شريف، وبين حزب الشعب الباكستاني والذي يقوده بلاول ووالده آصف علي زرداري.
بدأ عمران خان – حتى يصل إلى كرسي الحكم – باستهداف الأحزاب السياسية الباكستانية، ونعتها بالفاسدة، والسارقة، وأنهم سبب تخلف باكستان، ولولاهم لكانت باكستان في مصاف الدول المتقدمة، وقد عمل على تهييج الشباب الباكستاني، واستخدم الأدوات الدينية، وفوق ذلك كان لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في انتشار مواقفه الشعبوية، وطرقه الميكافيلية، بل قام باستغلال طاقات الشباب المتوهجة في شتم مخالفيه، ووصفهم بمصطلحات سياسية مستفزة.
وقد كان للمؤسسات الباكستانية دور في الوقوف خلفه حتى وصل إلى كرسي رئاسة الوزراء في منتصف 2018م، ولم ينتهِ عن وصفهم بما كان يصفهم قبل الانتخابات، بل زاد في حدته، وأصبح جمع من المتحدثين باسم حزبه ينتهجون ذات النهج المتطرف، مع استغلال تويتر، ويوتيوب، والفيسبوك بمنهجية من خلال شباب أتقنوا أداء هذا الدور، حتى وصلت حدة التطرف بين الأحزاب السياسية إلى أن اجتمعت ضده في سبيل إزاحته، وقاموا بإزاحته من كرسي رئاسة الوزراء في ربع 2022م، على الرغم من أنه كان يستطيع خلال فترة حكمه أن ينصرف إلى بناء باكستان، لكن نرجسيته، ووقوفه على نفس التل الذي كان يقف عليه قبل أن يصبح رئيسا للوزراء أدى إلى نتيجة سلبية تفرق خلالها المجتمع الباكستاني شذر مذر.
أصبح التلاسن يسيطر على تغريدات الساسة الباكستانيين فيما بينهم، كما أن أنصار حركة الانصاف الباكستانية لا يتركون شاردة ولا واردة ممن يخالفونهم سواء من الساسة أو الناشطين أو عامة المغردين إلا ودخلوا معهم في جدال، كل هذه الأمور أدت في نهاية الأمر إلى عدم وجود استقرار سياسي في باكستان، بالاضافة إلى ارتفاع حدة التطرف السياسي والذي يرى الواقع فيه دون أن يشعر أنه أو من يقوده على حق، وما يحدث في باكستان الآن إنما هي إرهاصات لو لم يتم علاجها تؤدي إلى احتقان شديد في المجتمع على المدى الطويل، ويسبب بعثرة في أي مجتمع يتجه نحو التطرف.