يعتبر الحجُّ من الأمور العزيزة عند المسلمين، تهفوا القلوب إلى الحرمين الشريفين شوقا ومحبة، وتتحمل الأجساد -فتية كانت أو هرمة- العناء في سبيل إرضاء الواحد الأحد، ومما يمكن أن نشاهده في شبه القارة الهندية بالتحديد هو فرحة واحتفاء أقارب الحاج به، فكل من عرف أن فلانا سيسافر للحج تلهج المشاعر عنده، ويبدي مساعدته، ويطلب الدعاء، فيما الأقارب إذا شيعوا الحاج شيَّعوهُ حتى المطار، وعند عودته من الحج يُستقبل بالزهور.. تلك هي صور معتادة نشاهدها في شبه القارة الهندية، ولكن ماذا عن الأمور التي كانت تحدث قبل مائة سنة فأكثر؟!
السفرنامات التي كتبها الكُتَّاب من شبهِ القارة الهندية، تكشفُ لنا ما وراء سُتر التاريخ، وكيف كان الاهتمام والتفكير، ومما أمكننا الاطلاع عليه من الجهود المبذولة قديما في شبه القارة الهندية هي الكتب المطبوعة، منها ما سُمي بالمعلومات المفيدة عن سفر الحج باللغة الأردية وهو كتاب طُبع عام ١٩٣٠م في لاهور، يقع في (٢٥) صفحة من القطع المتوسط، جُمعت فيه المعلومات عن الوثائق الضرورية للحاج، وقدر الأموال التي يجب أن يأخذها معه، وكيفية المحافظة عليها.
ومما يذكر في هذا الكتاب أن جدة بها بنك واحد، وله فرع في مومباي، والأفضل للحاج أن يتفق مع البنك حتى إذا ما وصل جدة، يذهب إلى الفرع ليأخذ المبلغ الذي جمعه في مومباي، والطريقة الأخرى المذكورة أن التجار الذين كانت لديهم تجارة في الهند وفي جدة، يعملون على تأمين المبلغ الذي جمعه الحاج في الفرع في كراتشي أو الهند، ليحصل عليه في جدة.
هذا الكتاب يوجه الحاج عما يجب أن يحمل معه، وأن يحصل على المعلومات الضرورية المتعلقة بالسفر عبر القطار، أو عبر السفن البحرية، كذلك ما يجب أن يفعله بعد الوصول إلى كراتشي أو مومباي، كما يبين الكتاب الخدمات التي توفرها السفن البحرية أثناء السفر، من نوم، وراحة، وطهي الطعام، وما يجب أن يفعله الحاج بعد وصوله إلى جدة.
ويسرد الكتاب أن مكة تقع على بعد ٤٨ ميلا من جدة، تصل السيارة إلى مكة في غضون ثلاث ساعات، بينما الجمال تصل في (٣٦) ساعة، المسافر إلى مكة عبر الجمال يقفون في مقام اسمه (بحرة) لمدة (١٢-١٣) ساعة، وتُستخدم الحمير للتنقل أيضا في الحجاز، ولا يمكن الركوب عليه إلا لشخص دون أن يستطيع حمل أمتعته، فيما تقع المدينة على بعد ٣٢٥ ميلا، السفر بالسيارة إلى المدينة يقطعه المسافر ما بين (٢٤) إلى (٣٠) ساعة، بينما السفر عبر الجمال (١١) يوما، يصل المسافر المدينة في اليوم الثاني عشر.
أما المدينة فتقع على مسافة (٢٨٠) ميلا من جدة، تصل السيارة إليها في غضون (١٧) إلى (٢٠) ساعة، بينما الجمال تصل في (٩) أيام، القافلة تصل في اليوم الحادي عشر، ولكن لا تذهب أي قافلة للحجاج من جدة إلى المدينة.
كما يتناول الكتاب المصارف بالروبية التي يجب على الحاج أن يصرفها مقابل الخدمات المقدمة، مثل أجرة المعلم، والتنقل بين المدن، وأجرة الجمال، والخيمة، والتنقل من مكة إلى عرفات، والسكن، وغيرها من الأمور، كما يذكر أن حكومة الحجاز نشرت قائمة باللغتين الأردية والعربية فيها أسعار الخدمات مدونة، والنقود المستخدمة آنذاك، وهو القرش المصري، والأميري، والقرش السعودي، والمجيدي.
واللافت في هذا الكتاب هو ما تم ذكره عن مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز رحمه الله أنه يكون حاضرا في موسم الحج، إذ يتم الاعلان بين الحجاج أن كل لديه من شكوى يريد أن يتقدم بها أو اقتراحا يريد إيصاله، فإن عليه حتى تاريخ معين إيصاله إلى سكرتير الملك عبد العزيز، ويذكر الكتيب أيضا تعيين الشيخ محمد إسماعيل الغزنوي في الهند من قبل الملك عبد العزيز لإنهاء الأعمال الضرورية، كما أنه يكون موجودا في مكة لخدمة الحجاج القادمين من شبه القارة الهندية.
وهناك روزنامة أقدم مما تم ذكره في الأعلى، وهي روزنامة الدهلوي تعود إلى ١٩١١م، وتقع في ٢٠٧ صفحات، وهي لحسن نظامي الدهلوي، يحكي فيها وقائع سفره إلى مصر والشام والحجاز ويسرد إحساسه تجاه الحجاز تحديدا، ويذكر الحوادث خلال تنقلاته، ومن قابلهم من الساسة وأصحاب النفوذ من الأتراك أو الإنجليز، ويرصد صورا من المجتمع الحجازي، بينها أمور تمثل إشكالا لدى بعض العلماء حول المواليد الجدد في المدينة المنورة، إذ يذكر الدهلوي، ويقول: (رأيت في أحد الأيام من يدخل الأطفال الرُّضَّع إلى القبة الشريفة، والخميس هو اليوم المقرر لذلك، جمعٌ من الرجال يحملون أبناءهم يُلبسونهم ملبسا حسنا، ويحملون معهم خبزا أو حَلَى، يأخذهم الأغوات إلى داخل القبة ويطوفون بهم، وعندما يخرجون من القبة يتهافت الناس نحو الأطفال ويتجاذبونهم، يقصدون لمسهم وتقبيلهم تبركا، إذا لم يُتدارك الأمر لسقط الرضع وأصيبوا بجروح أما الخبز والحلى فيتقاسمه الأقارب، والكل يبارك لأم المولود قائلين لها في فرح : حظ ابنك حسنٌ، فالله أراه هذا اليوم المبارك بأن استفاض من مزار رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويمضي الدهلوي قائلا: (رأيت الأطفال يبكون ويصرخون، وبمجرد دخولهم القبة يسكتون، وحتى خروجهم، وأتعجب أنهم لا يزالون صامتين حتى وقت تهافت الناس عليهم).
وهناك سفرنامة أخرى كتبها نسيم حجازي، والمولود عام ١٩١٤هـ، يتضمن كتابه ١٦٧ صفحة، وتعود إلى عام ١٩٦٠م، وهي سيرة سفره إلى الحجاز مرورا بإيران وتركيا ودمشق، ويذكر فيها مشاهداته، ويقول عن وجوده في مكة المكرمة، واصفا موقفه في الحرم المكي: (صمتَ المعلِّم قليلا، ثم شرع في الدعاء، فتابعته في القراءة وأنفاسي تختلط ببعضها بكاء، التفتَ المعلَّم إليَّ وربَّت على كتفي شفقةً علي لبكائي المتواصل، ثم قدَّمني خطوات قليلة، فوقفت أدعو على عتبة باب الرحمة طويلا، وإن كان في قلبي دعاء أُلجمتُ، ولم أجد ألفاظا أترجم بها مكنون الضمير، ثم تنبَّهت أنَّ جمعا غفيرا من الناسِ يقفون خلفي، فملتُ جانبا وتعلقتُ بأستار الكعبة، الآن وقد كففت عن البكاءِ صرت أردد الأدعية، ورفعتُ يدي للدعاء إلى أقصى درجة، وليس لطالب حاجة أن يقف موقفا أفضل من هذا المقام).
مختصر القول أن هناك المئات من السفرنامات التي كان أصحابها من شبه القارة الهندية؛ ولو تمت ترجمتها والاطلاع عليها ونقلها إلى العربية لظهر لنا تاريخ للحجاز منطوٍ في ثنايا التراث الأردي.
كما أن بإمكان تلك السفرنامات خصوصا التي كُتبت قبل توحيد السعودية عام ١٩٣٢م أو بعدها عما كان عليه الحج آنذاك، وجهود الملك عبد العزيز في توطيد الأمن في الحرمين الشريفين، وخدمته للحجيج، فلقد عاينتُ المواسم السالفة، وشاهدت التطوير السنوي المستمر إلى أن تيسرت الأمور على الحاج أثناء أداء الحج، بعد أن كان فيه من المشقة ما فيه، وأسأل الله أن تبقى هذه الديار عامرة بأهلها، سنيَّة بقياداتها التي لا تألوا جهدا في خدمة الحجاج القادمين من كل فجٍّ عميق.